بين التحضر والأخلاق
هالني وهال الكثيرين تلك المشاهد المؤسفة التي صدرت من بعض مشجعي بطولة الأمم الأوربية لكرة القدم في فرنسا، والتي أظهروا فيها كل همجية وبربرية، وانطلقوا يخربون المقاهي والمنتزهات، ويتمادون في إلقاء الزجاجات والكراسي على بعضهم البعض، للدرجة التي جعلت السلطات تمنع تداول الخمور وقت البطولة، والتي ظلت مهدَّدة طوال فترة انعقادها بالإلغاء.
لكن الأصعب من هذه المشاهد، هي تلك الصدمة الفكرية التي أصابت الكثيرين، حين شاهدوا هذه السلوكيات من مشجعي الدول الغربية، والتي من المعروف عنها التقدُّم والتحضُّر، للدرجة التي تجعل جميع شعوب العالم تنظر إليهم كنموذج يُحتذى به في الالتزام الأخلاقي، وتعتبرهم مثل أعلى للتمدُّن والرقي. ومن هنا لزم فك الرباط الفكري بين التحضر والأخلاق.
اختلاط المفاهيم:
والحقيقة أن سبب الصدمة السابق ذكرها، هو اختلاط المفاهيم عن الفرق بين المسؤولية القانونية والمسؤولية الأخلاقية. فالأولى تعني التزام الإنسان بالقوانين الموضوعة، والتي يُشرف على تنفيذها سلطة خارجة عن الإنسان (رجال الأمن أو القضاء)، حيث يلتزم الإنسان بقوانين المرور، أو بأخلاقيات مهنته، أو غيرها من التشريعات التي أقرَّتها دولته.
ولكن حين يزول المراقب على تنفيذ هذه القوانين، يظهر الوجه الحقيقي للإنسان، ويختفي على الفور وجهه الراقي والمتحضِّر، وهذا يفسِّر عمليات النهب والسرقة التي تحدث في كبرى المدن المتحضرة، بمجرد غياب الأمن أو فراغ الدولة.
أما النوع الثاني من المسؤولية؛ المسؤولية الأخلاقية، فهي تنبُع من داخل الإنسان نفسه، ولا تحتاج لأي سلطة خارجية لكي تستدعيها. وهي أشمل بكثير من مجرد احترام القوانين، لأنها تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه، وبنفسه، وبغيره. حيث أن الكلمة الإنجليزية للأخلاق «Ethic» مشتقة من الكلمة اليونانية «إيثيه»، أي عادة أو طبع، وبالتالي فلا علاقة أكيدة بين التحضر وبين الأخلاق بمفهومها الحقيقي. ولا قيمة مطلقًا لالتزام الإنسان خارجيًا بقوانين دولته، فيما ينغمس داخليًا بكافة الشرور التي تفسد علاقته بخالقه.
نسبية الأخلاق:
وليس هذا فقط، ولكن المشكلة الكبرى أن الأخلاق أصبحت نسبية في أيامنا هذه؛ فما يُعتبَر جريمة في مكان ما، مُصرحٌ به في مكان آخر، فاستساغ الشباب الزنى واعتبروه دليلاً على الحرية الشخصية، وافتخرت الدول بالشذوذ الجنسي وأنارت بألوانه أبرز معالمها، واعتبرته دليلاً على التمدين والحضارة، وتسابقت المجتمعات في إزكاء لغة التعصب والكره والعنف، واعتبرته دليلاً على القوة والسيطرة.
وهكذا أصبح البشر يقيسون أخلاقهم بمقاييسهم الشخصية، وتجاهلوا أن الله هو «الَّذِي لَيْسَ عِنْدَهُ تَغْيِيرٌ وَلاَ ظِلُّ دَوَرَانٍ» (يعقوب١: ١٧)، وهو الذي لا يعرف أي نسبية في قوانينه الأخلاقية التي وضعها.
عبَّر المستشار السابق للأمن القومي الأميركي زبجنيو بريجينسكي Zbigniew Brzezinski عن هذه النسبية الأخلاقية في كتابه “الانفلات” قائلاً: “إن ما نعانيه هو أزمة في سلوك الإنسان، وفي الأفكار التي تشكِّل هذا السلوك، إذ نتيجة للنسبية في الأخلاق ونتيجة للإباحية، لم نعد نعرف يقينًا من هو الإنسان الصالح، وما هو العمل الصالح، وما هو المجتمع الصالح”.
سبب الإنهيار:
والحقيقة أنه مهما اجتهدت الدول في وضع قوانين مجتمعية لإصلاح أخلاق الإنسان، أو إنهاء الظواهر السيئة عندها؛ مثل التحرش والسرقة والفساد وغيرها، فإن هذه الجهود ستضيع أدراج الرياح، لأن سبب الانهيار الأخلاقي بكل بساطة، لا يوجد خارج الإنسان، ولكن يوجد داخل قلبه هو.
وهذا ما قاله المسيح صراحةً للجموع: «لأَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ: زِنىً، فِسْقٌ، قَتْلٌ، سِرْقَةٌ، طَمَعٌ، خُبْثٌ، مَكْرٌ، عَهَارَةٌ، عَيْنٌ شِرِّيرَةٌ، تَجْدِيفٌ، كِبْرِيَاءُ، جَهْلٌ. جَمِيعُ هذِهِ الشُّرُورِ تَخْرُجُ مِنَ الدَّاخِلِ وَتُنَجِّسُ الإِنْسَانَ» (مرقس٧: ٢١-٢٣).
فالقلب هو المطبخ التي تُطبخ فيه كل قرارات الإنسان الشريرة، فمن يريد أن يسرق أو يزني لا يقوم بهذا مباشرةً، ولكنه يشتهي ويختار ضحيته وينتظر التوقيت المناسب لجريمته، وكل هذا يتم داخل القلب، ثم يُصدِر القلب أوامره لباقي الأعضاء، فتفعل أصعب الشرور وترتكب أمقت الجرائم.
وكلما ابتعد البشر قلبيًا عن الله مصدر الصلاح، لأنه «لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلاَّ وَاحِدٌ وَهُوَ الله» (مرقس١٠: ٨)، كلما زادت حالة الانهيار الأخلاقي عندهم، حتى وصلت إلى الشكل الذي نراه الآن، لأن «الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ» (رومية٣: ١٢).
نبع الصلاح:
ولكن من رحمة الله أن القصة لم تنتهِ عند هذا الحد، لأن الله أرسل إلينا مصدر الصلاح كله؛ المسيح، الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ، وَالرَّاعِي الصَّالِحُ يَبْذِلُ نَفْسَهُ عَنِ الْخِرَافِ» (يوحنا١٠: ١١)، والذي حين يسود على الحياة، يحوِّل قلب الإنسان الفاسد إلى قلب صالح، وتتم فيه الكلمات «الإِنْسَانُ الصَّالِحُ مِنْ كَنْزِ قَلْبِهِ الصَّالِحِ يُخْرِجُ الصَّلاَحَ… فَإِنَّهُ مِنْ فَضْلَةِ الْقَلْبِ يَتَكَلَّمُ فَمُهُ» (لوقا٦: ٤٥).
وليس هذا فقط، ولكن حين يمتلئ المؤمن بروح الله، فإنه يفيض بكل الأخلاق الصالحة البديعة من داخله، وبدون أي قوانين خارجية تجبره على هذا، «وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ» (غلاطية٥: ٢٢، ٢٣)، بل وقد يصل به لحالة مؤمني رومية، الذي وصفهم بولس الرسل أنهم «مَشْحُونُونَ صَلاَحًا، وَمَمْلُوؤُونَ كُلَّ عِلْمٍ» (رومية١٥: ١٤).
عزيزي القارئ… لا ترجو مثالية أخلاقية من العالم الذي تعيش فيه مهما بدا لك متحضرًا، ولا تُصدم في قِيَمِه التي طالما سمعت عنها، فالأخلاق الحقيقية ليست بقوانين خارجية تنفذها، ولكن بثمار صالحة تُخرجها من قلبك وتُسعد بها إلهك. وحين تفعل هذا، ستحترم القوانين بدون أي مراقب، وستُخرج عطرًا أخلاقيًا مميزًا في أي مكان.